القائمة الرئيسية

الصفحات

جديدنا

الشخصية المصرية في رواية (كل من عليها خان) للكاتب الكبير الأستاذ/ السيد حافظ - بقلم د. أمل درويش

لم أعتد أن أسرد الأثر الذي تركه عمل ما قرأته، فدائمًا تبقى أسراب الأفكار مُحلقة في خيالي، لا تبرحه، لكنها في الوقت ذاته تعصى عن التقاطها وجمعها فوق السطور..

ولكنني هذه المرة أردتُ أن أُسجل تفاصيل هذه الرحلة الماتعة، والمؤلمة في نفس الوقت..
وبينما كنت أتابع الأحداث والتفاصيل بشوق وأتنقل مع الكاتب من زمن لآخر كانت هذه الكلمات للشاعر بيرم التونسي تتردد أصداؤها في عقلي:
يقول بيرم التونسي في وصف المصري:
يا مصري ليه ترخي دراعك والكون ساعك
ونيل جميل حلو بتاعك يشفي اللهاليب
خلق إلهك مقدونيا على سردينيا
والكل زايطين في الدنيا ليه انت كئيب
وادي العراق نصب النصبه ودخل العصبه
وأرضك انت دهب خصبه من غير أنابيب
بداية الرحلة قد تبدو صالحة لكل الأوقات، حين ينقل لنا الكاتب المبدع الأستاذ السيد حافظ واقعًا مريرًا ينفي بكل ثقة تكهنات البعض واتهاماتهم بأن المصريين اليوم يملكون چينات مختلطة، هجين تشكّل نسيجه من أمشاجٍ يونانية، رومانية، فارسية، مملوكية، عثمانية، فرنسية وانجليزية وربما أكثر من ذلك..
وأن مصريّوا اليوم لا يمتون بصلة لقدماء المصريين..
ولكن ما أكدته رؤية المبدع السيد حافظ نفت ذلك الزعم وفندته تفنيدًا؛ فها نحن نغرق في تفاصيل الرواية نتنقل بين العصور المختلفة، ننغمس حتى النخاع، وكلما مررنا بطبقة وعصر لا نجد اختلافًا بين صفات المصري فيها جميعها..
الاستسلام والخنوع والدّعة سمة لم تتغير، التراخي والكسل يليهما الشكوى من سوء الحظ والظلم، وما إن تتخطى قدماه حدود الوطن تدب فيه النشوة وروح النشاط، وما كان يرفضه هناك يُقبل عليه طواعيةً خارج مصر.
ليس المصري فقط، ولكن معظم الشعوب العربية اتفقت على هذه الطبيعة، وزِد عليها المنافسة غير الشريفة؛ فمن اغترب سيفهم جيدًا ما ذكره الروائي الكبير عن صراعات العرب فيما بينهم فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية في الغربة، لا أحد يفكر في شيء سوى كيفية التخلص من الآخر، حتى ولو كان من نفس بلدك، وربما كان أخاك!!
الشعب المصري متدين بطبعه..
تلك المقولة التي يرددها الكثيرون، وما هي سوى غطاء لكل ما ليس له أي علاقة بالدين، إلا من ظاهره!!
فالمصري الذي عبد الإله الواحد متبعًا إخناتون، ثم هرب وعاد لكهنة آمون وآلهتهم المتعددة خوفًا من غضبهم، وتقبله لكل الديانات السماوية التي مرت عليه؛ حتى ذابت جميعها في نسيج واحد..
فتجد المصري يعتز بكونه من أصل قبطي، وما زال يحتفل بأعياد أجداده القدماء، ولا ينفي كونه مسلمًا ألا يحتفل بعيد الميلاد المجيد، وكذلك المسيحي الذي قد يقضي نهار رمضان صائمًا فقط لمشاركة جاره أو زميله في العمل..
وبالمثل نجد في الرواية اختلاط المذهب السني بالمذهب الشيعي وتزاوج المصريين في عصور متتالية دون النظر إلى هذه الفروق، فلطالما قدّس المصريون آل البيت واحتفوا بهم وخصصوا لهم الزيارات..
ببساطة الدين عند المصري البسيط بالفطرة، وليس بتطبيق تعاليمه بدقة، ولذلك تجده يفعل الشيء وعكسه ويظن أن النوايا الحسنة تكفيه لدخول الجنة!!
تنقلت الرواية بشكل فريد بين العصور، دون أن ترهقك التفاصيل أو تبحث عن أوجه الاختلاف، تتابع عن كثب، وتغترف من السطور بنهم، لتصل إلى جزء في زمن آخر توقف عنده السرد..
ولكن عند جفاف النيل واشتداد الأزمة تنقلب الموازين وتمر سنوات الشدة المستنصرية السبع العجاف تمزق أحشاء الوطن وتبعثر أبناءه، فيأكل أحدهما الآخر دون شفقة ولا رحمة، وتسود الكآبة وتفقد الأرض خصوبتها.
الرجل هو الرجل في كل عصر، يؤجل أي شيء إلا رغبته، يقدمها قبل أي شيء، وحين تداهمه الحياة بضغوطها يفر بما يُذهب عقله، ويؤثر الراحة المؤقتة، فمعظم خططه قصيرة المدى..
على عكس النساء؛ فالمرأة تبحث عن الراحة الدائمة، وترسم خططًا بعيدة المدى، تخطو إليها بخطوات واثقة، حتى وإن لبت نداء رغباتها، فذلك يكون أمرًا عارضًا وليس الأساس، وربما كانت وسيلة لتحقيق هدف ما..
ومن هنا وجدنا أن ثورة النساء كانت الحل، وهي التي كسرت الحواجز وحررت العقول..
المرأة دائمًا تقف في الصف الثاني، لكنها تملك كل خيوط اللعبة في كل عصر ومكان..
وقد تجسدت شخصية شهرزاد تلك الحكاءة التي تسرد القصص من سالف الزمن لسهر وتنقلنا من عصر لآخر، تجري المقاربات والمقارنات بسردها الشيق وشخصيتها المسيطرة الملمة بكل الأحداث.
وأما سهر التي تلعب دور المتلقي المتلهف للولوج عبر بوابة الزمن لتجد لنفسها ألف مبرر لكل أخطائها وطموحاتها.
أما البطل الحقيقي فتحي رضوان هذا الصحفي الشغوف المولع بالنشاط وحب الوطن الذي خذله آلاف المرات فعوضه بحب النساء..
يطرح الكاتب العديد من علامات الاستفهام المخفية بين السطور وعلى القارئ البحث عن إجابات شافية..
من زيّف التاريخ؟
وما هو التاريخ الحقيقي؟
للأسف لا توجد إجابة واضحة، فيبدو أننا خُدعنا في كل الأوقات، وكل المؤرخين اتفقوا على خداعنا..
فهل سنكرر أخطاءهم ونُزيّف تاريخنا كما فعلوا؟ أم أن هناك دائمًا أيدي خفية تُبدل وتُغير لحساب أحدهم؟!
الفواصل القصيرة بين الحكايات.. مسرحية المشهد الواحد وما تحمله من هموم الوطن برمزية عبقرية محبوكة ليقفز في ذهنك وجه المهرج الضاحك الباكي..
في محاولة من الكاتب للتمرد على القالب الروائي المعتاد المتعارف عليه، وتجد الستار يفتح أمامك ويسلط الضوء على البطل في وسط الظلام لتعيش معه أجواء المسرح وتنفعل بانفعالاته ثم تعود مرة أخرى لأجواء الرواية والسرد المعتاد.
وهنا تجدر الإشارة إلى استخدام الكاتب لأسلوب لا يطرق أبوابه الكثير من الكتاب وهو أسلوب المسرواية، وأول من أدخل هذا الأسلوب على الرواية العربية "على استحياء" كان توفيق الحكيم في رواية بنك القلق وكذلك يوسف إدريس في رواية نيويورك 80.
هذا الكاتب "السيد حافظ" الذي أدخل المسرح التجريبي في الوطن العربي وكان رائده، وأبدع منذ مطلع السبعينيات في كتابة أعماله المسرحية، وبالطبع حين يقتحم عالم الرواية فلن يكون ولوجه فيه عاديًا مثل الآخرين.
ويجب أن يضع لمساته المسرحية ليمنح الرواية روحًا وشكلاً جديدًا لم يعهده القارئ من قبل.
ونخلص في نهاية الرواية بالإشادة بدور المرأة التي شكلت صحوة الضمير لدى الأمة؛ فها هي فجر تصبح الأمل والشرارة المولدة للثورة، وست مصر هي الضمير، وفي النهاية تبقى حكاية وجد ونيروزي هي فاكهة الرواية، وغير ذلك.. كل من عليها خان..

للحصول على نسختك الإلكترونية:
التشاكل الأجناسي في سباعية السيد حافظ

اضغط هنا